فتاة داخل جدران الإيجار

فتاة داخل جدران الإيجار

تقييم 0 من 5.
0 المراجعات

.كانت مريم تجلس بجانب النافذة الصغيرة في شقتها المستأجرة، تُحدّق بصمت في الشارع البعيد وكأنها تحاول تذكّر شكله. منذ ثلاث سنوات وهي تعيش بين هذه الجدران الأربعة، وكأنها أصبحت جزءًا منها لا يمكن فصله. في بداية انتقالها إلى هذه الشقة، كانت تشعر بالراحة، لأن المكان هادئ وخالٍ من الصخب، ولا أحد يطرق بابها أو يُربك يومها. أخبرت نفسها أنها ستبقى هنا فترة قصيرة حتى تهدأ حياتها، ثم تبحث عن مكان أكبر وأكثر إشراقًا، لكن الأيام مضت بصمت، وتحولت الأشهر إلى سنوات دون أن تشعر.

كان صوت الحياة في الخارج يتلاشى تدريجيًا من ذاكرتها، حتى أنها كانت أحيانًا تُغمض عينيها وتُحاول أن تتذكر رائحة الشارع، أو صخب السيارات والمارة، لكنها لا تجد شيئًا سوى بقايا مشاهد قديمة. في الماضي، كانت مريم فتاة اجتماعية، لديها صديقة مقرّبة تُدعى يارا. كانتا تخرجان معًا كل يوم بعد الجامعة، تتجولان في الشوارع، وتشتريان القهوة، وتتحدثان لساعات دون ملل. تتذكر مريم ضحكات يارا وهي تقف بجانبها في إحدى الأمسيات الممطرة، وكيف كانتا تقفان تحت المطر دون أن تخافا مِن البلل. يومها قالت يارا: “لا تخافي من شيء، الحياة أجمل مما تتوقعين”.

لكن تلك الذكرى لم تعد سوى صورة باهتة. بعد وفاة والد مريم المفاجئة، بدأت تتغير كل تفاصيل حياتها، وابتعدت عن الجميع دون أن تدرك. حدثت بعض الخلافات داخل العائلة، وشعرت لأول مرة أن البقاء وحدها أفضل من الكلام أو محاولة الشرح. وهكذا انتقلت للشقة الصغيرة، ظنًا منها أنها ستكون فقط محطة مؤقتة.

وما بدأ كمكان هادئ للاستراحة، تحوّل بالتدريج إلى ملاذ مغلق يصعب مغادرته. صارت الغرفة الصغيرة هي عالمها الوحيد، والممر الضيق هو الطريق الوحيد الذي تعرفه. في كل صباح تستيقظ على صوت خطوات الجيران في السلالم، وتكتفي بالاستماع بصمت، كأنها تشاهد شريطًا سينمائيًا دون صور. تقضي معظم وقتها في قراءة الكتب القديمة التي أصبحت تحفظ فقراتها، أو إعداد كوب شاي دون أن تشربه، أو الوقوف أمام النافذة دون حركة.

كل شيء في الشقة أضحى مألوفًا بطريقة مؤلمة. جدار غرفة النوم به شرخ صغير يشبه حرف “Y”؛ كلما مرت أمامه تتذكر اسم صديقة عمرها. خزانة الملابس تصدر صوتًا خفيفًا عندما تغلق بابها، وأحيانًا تشعر وكأنها تتنهد، مثل إنسان تعب من الوحدة. لم تعد مريم خائفة من هذه الأصوات، بل اعتادت عليها، حتى بدأت تشعر بأنها لا تعيش في مكان، بل تعيش مع كائن ما يشاركها مشاعرها بصمت.

وفي مساء هادئ، وبينما كانت تقرأ رواية قديمة لتمضية الوقت، انقطع التيار الكهربائي فجأة. عمّ الظلام أرجاء الشقة، وساد صمت غريب لم تألفه من قبل، وكأن الجدران توقفت عن التنفس. حاولت أن تتجاهل الأمر، لكنها شعرت بقلبها ينبض بسرعة، ورجفة خفيفة اجتاحت جسدها. كانت تشعر بأن هذا الظلام يختلف عن المرات السابقة، وكأن شيئًا ما يتغير.

نهضت من مكانها ببطء، وسارت في الممر نحو نافذة الصالة. فتحت الستائر قليلًا، فدخل ضوء القمر الهادئ، واستقر على وجهها. وقفت هناك دون حراك، وعيناها تتأمل الشارع الفارغ. لأول مرة منذ زمن طويل، شعرت وكأن هذا الضوء يناديها للخروج، وكأن الشارع ينتظرها، ويهمس لها: “لقد تأخرتِ، لكن الباب ما زال مفتوحًا”.

سقطت عينها على السلم، وتذكرت آخر مرة نزلت فيه، لكنها لم تجد أي صورة واضحة في ذهنها. بدت ذاكرتها وكأنها صفحة بيضاء لم تُكتب عليها أي تفاصيل. شعرت بارتباك شديد، لكن شيئًا بداخلها كان يدفعها للتحرك. عادت ببطء إلى منتصف الغرفة، ونظرت حولها وكأنها تودّع المكان. كل شيء بداخل الشقة بدا صامتًا، لكنه يراقبها بعينيه الخفية.

جمعت أنفاسها، وبدأت تتحرك نحو الباب. كل خطوة كانت تبدو وكأنها تقطع خيطًا رفيعًا من العزلة التي أحاطتها لسنوات. عندما وصلت إلى الباب، توقفت للحظة. وضعت يدها على المقبض، وشعرت ببرودته وكأن الشقة تحاول أن تبقيها. تذكرت حينها جملة يارا القديمة: “لا تخافي من شيء…”. حدقت في الظلام خلف النافذة، ثم أغمضت عينيها وتنفسـت بعمق.

احتبس كل شيء في تلك اللحظة.
بين دفء الجدران التي اعتادت عليها، والهواء البارد الذي يتسلل من الخارج…
لم يكن أحد يعلم ماذا ستختار مريم.
 

التعليقات ( 0 )
الرجاء تسجيل الدخول لتتمكن من التعليق
مقال بواسطة
المقالات

2

متابعهم

1

متابعهم

0

مقالات مشابة
-